السنة العرب: رهان العنف المستمر
تتبنى المؤسسة نشر المقالات الثقافية والفكرية مساهمةً منها في بناء الفرد وتحصين المجتمع وإثراءً للحراك الفكري والثقافي في بلدنا الحبيب ولا تعبر الآراء المنشورة فيها بالضرورة عن رأي المؤسسة.
السنة العرب: رهان العنف المستمر
فراس طارق مكية
كان ردة فعل السنة العرب في 2003 على انهيار دولتهم وسلطتهم التي امتدت قروناً أبعد بكثير من ولادة الدولة العراقية الأولى هي فقدان كامل لتوازنهم الوجودي حيث ارتبط مصيرهم السياسي مع مصير الدولة المنهارة، وكان التمرد على الدولة الجديدة الناشئة ورفض موقعهم الهامشي – الطبيعي فيها هو الخيار الأسهل الذي انزلقوا إليه قبل أن يستفيقوا من الصدمة ويتمكنوا من إعادة حساباتهم بواقعية وعقلانية، فقاموا بإسعار نار العنف الطائفي مستمدين كل وسائل التهجير والقتل الجماعي لمحاولة إثبات الوجود "أو استمرار الوجود" والمراهنة على خيار القوة لإعادة فرض تموضعهم السياسي في المعادلة الجديدة. بيد أن تماديهم في العنف الطائفي الذي تطور إلى إرهاب شامل كخيار وحيد للمساومة على موقعهم في السلطة كان لا بد من أن يفجر الغضب المقابل للمكونات الأخرى ويستفزها لعنف مضاد تكون نتيجته الحتمية هو الحرب الأهلية التي ستكون في العادة المحرقة التي تشمل الجميع بلا استثناء وبلا انقطاع لإمكانية اضطرامها مجدداً من تحت رماد الفناء. وهكذا كانت عاقبة التلاعب بالنار أن انفلت مارد التطرف متجاوزاً كل الخطوط الحمراء بلا كابح لينقلب السحر على الساحر في شباط 2006 ويفجر كابوس الحرب الأهلية الأولى التي سرعان ما حسمت حسابات الديموغرافيا موازينها دون أن تحسمها نهائياً بالطبع. الدرس كان قاسياً بما فيه الكفاية ليحول خيبة الأمل السنية من فشلهم بإفشال مشروع الدولة إلى تحول براغماتي سريع نحو الخيار العقلاني الوحيد وهو "الإضطرار" للإنخراط فيها، فانقلبت المقاطعة السنية للعملية السياسية إلى مساهمة محمومة في انتخابات 2010. التحول كان مدروساً ومتقناً إلى درجة تثير الإعجاب – أو الحسد! – بحيث اكتسحوا بتحالف سني ذي واجهة وطنية – أو شيعية – فرقائهم الباقين وقفزوا نحو الكتلة الأكبر وسط دهشة الجميع، بيد أن فرحتهم لم تدم طويلاً بهذا الانتصار الذي كان بداية المأساة من جديد إذ أن غرماءهم الشيعة العرب المسكونين بفوبيا الاضطهاد والاستعباد لم يكونوا مستعدين للإذعان للعبة الديمقراطية التي انخدعوا بها بهذه السهولة مع غياب أي عقد حقيقي بين المكونات يضمن كون اللعبة الديمقراطية آلية حقيقية لتبادل السلطة وليست "انقلاباً" عصرياً لاختطاف السلطة مجدداً، وهكذا تلاعب محدثي السلطة بالدستور الهش ليحجبوا السلطة عن اسيادهم السابقين، بدلاً من أن يعيدوا حساباتهم لفحص مدى صلاحية المعادلة السياسية الجديدة لضمان تقاسم عادل ومحكم للسلطة، هذا التلاعب كان بمثابة اطلاق رصاصة الرحمة على الدستور الفاشل الذي لم يملك الشجاعة الكافية للإفصاح عن معالجة الأزمة الجوهرية للدولة الوطنية.
في ظل أجواء الإستقطاب الطائفي الذي غمر الشرق الأوسط ومع إرث عميق من الشك وعدم الثقة بين المكونات، انساق الوعي العام للسنة العرب تلقائياً نحو اعتبار الدكتاتورية التي بدأت تثقل عليهم اضطهادا طائفياً ولم يصنفوها قط ضمن الأوتوقراطيات الفردية، ولم يأخذوا بنظر الإعتبار المقاطعة والعزلة الشيعية الداخلية الخانقة التي بدأت تعاني منها الحكومة بصورة متفاقمة في دورتها الثانية. معارضة الدكتاتورية الناشئة التي اشتركت فيها كل القوى السياسية الممثلة للمكونات الرئيسية الثلاث استغلت أحداث الربيع العربي لتعلن عن الغليان المتصاعد، غير أن المعارضة السنية انقادت بسهولة مع نزق الحكومة لتسلم زمامها لتيار التطرف الذي بدأ باختطاف قرار سنة العراق مجدداً باتجاه دوامة العنف وصولاً إلى ذروة الإرهاب التكفيري السني: داعش الوريث "الشرعي" للقاعدة متغافلين عن "صحوتهم" التي انتقلوا بها من الحرب الأهلية إلى العملية السياسية. الخيار السني التقليدي كان الإنزلاق مرة ثانية نحو تبني العنف متناسين حصيلة النتائج الكارثية للحرب الأهلية الأولى 2006-2009 وتداعياتها السلبية على نفوذهم السياسي أولاً وعلى تدمير أسس الدولة الوطنية ثانياً وتقويض بنية المجتمع العراقي وعلاقة مكوناته ثالثاً. نعم قد يبدو خيار السنة العرب هذه المرة مبرراً في ظل نظام أوتوقراطي لو لم يكونوا قد ذاقوا نفس التجربة قبل سنتين أو ثلاث، ولكن هل كان خيار العنف هو الخيار الوحيد؟ ألم يكن من الممكن الإنخراط في محاولة لعقد تأسيسي جاد للهوية الوطنية مع القوى الشيعية – فضلاً عن الكردية – المعارضة للحكومة التي اكتوت بنارها هي الأخرى إلى الدرجة التي شارك بعضها بحماس في مؤتمر أربيل لإسقاطها؟ ألم يكن التهديد الموجه للنظام الديمقراطي كافياً لتجاوز هلع الاستقطاب الطائفي والتكفير عن خطيئة مقاطعة دستور 2005 غير المتوازن؟
تبدو خيارات السنة العرب المستقبلية معقدة، المزاج السني بالكاد بدأ يستوعب واقع التعددية والشراكة بما تعنيه من التخلي عن احتكار السلطة – الثيمة التي لا يمكن انتزاعها من الثقافة السنية – ولكن لا زال من الصعب عليه أن يتأقلم مع واقع الأقلية الديموغرافية التي لا يجد القادة السنة مفراً من الإذعان لها بيد أنهم لا يملكون شجاعة صدمة الوعي السني بهذا الواقع وتبعاته. تمحورت الستراتيجية السياسية للسنة العرب حول الإنتقال من موقع الشريك ذي الدرجة الثانية أو بالأحرى الثالثة الذي فرضه واقعهم الديمغرافي وواقعهم الإقتصادي وإرثهم من النظام السابق، إلى موقع الشريك المركزي الكامل الشراكة ومحاولة فرض هذه القفزة بالشراكة والموقع في النفوذ السياسي عبر العنف أولاً والإمتداد الإقليمي الملوّح بالعنف لاحقاً، وقد فشلت كلتا المحاولتين بسبب الفارق الكبير في الأحجام السكانية والجغرافية الذي لم يتمكنوا من اجتيازه رغم مفاجأة المبادئة ورغم تفوقهم في القوة وفي الدعم الإقليمي وأفضتا إلى كارثة سياسية لموقع السنة العرب في النظام الجديد وإلى مزيد من التهميش وتكريس وضع الشريك المنبوذ.
انهيار مراكز القرار السني التام مع انهيار النظام السابق أظهر ساحة مفرطة في التشتت والتشرذم أكثر مما يعانيه الشركاء الباقون، الفشل السياسي بسبب هذا التشتت وبسبب عدم تفهم الشركاء الباقين أو ردود أفعالهم تجاه تيارات العنف المنبعثة من الشارع السني أدى إلى مزيد من التشتت وإلى مزيد من الفشل، ما كرّس هيمنة مطلقة لخيار الإرهاب. أفضى التلاعب بالنار مضافاً إليه الفشل في تحقيق الأهداف السياسية إلى سيطرة تيارات التطرف والعنف على الشارع السني اليائس بحيث تكرر اللجوء إلى خيار العنف خياراً وحيداً للمفاوضة على السلطة، وإذ يسيطر منطق القوة تتوقف معه كل الخيارات السياسية ويصبح الرهان صفرياً إما كل شيء أو لا شيء وحينها لا يمكن البحث عن الشراكة في دولة تعددية، تيار التطرف يتعاظم عادةً ككرة الثلج ليختطف القرار من يد التيارات الباحثة عن الحلول السياسية التي بيدها فقط الحسم النهائي.
حصيلة التشتت والفشل تجسدت في النهاية في دراما احتلال "داعش" للمنطقة السنية بالكامل وتحويلها إلى أرض محروقة تماماً ومأساة اجتماعية وبشرية ضحيتها الأكبر كان السنة العرب أنفسهم، الدرس الذي لا يزال التناحر السني مصراً على عدم استيعابه. مشروع الإقليم السني الآخذ بالتبلور في انتخابات 2014 تبلور بالفعل ولكن بصورة كارثة حضارية أقرب إلى "صومال" عراقية تحت احتلال بربري يرقى للعصور الوسطى إن لم تكن البدائية، مع انهيار كامل للقرار والمنظومة السياسية السنية، والأدهى من ذلك كله تمزق اجتماعي داخلي يكاد يرقى إلى حرب أهلية بين العشائر السنية المنقسمة بين الإنخراط في داعش والخضوع التام لها وبين محاربتها والإذعان للدولة العراقية التي اختزلتها مواجهة داعش إلى بالكاد ما هو أكبر من مجرد إقليم شيعي. انتهاء كابوس داعش بالمقابل يعني تحريراً لإقليم السنة العرب ولكنه يعني بالمقابل انتصار الدولة ممثلة بالشريكين الآخرين بالقوة على مشروعهم لإسقاطها بالقوة ما يكرس من خطاياهم. التكفير عن خطايا الإرهاب يكون فقط بالتخلي جذرياً عن منطق القوة والعنف، والإذعان لمنطق التعايش كخيار نهائي عبر المبادرة لحل سياسي ناضج ومعقول يتجاوز كل عقد السلطة السنية وينبع من النظرة الواقعية لحجمهم الطبيعي في المجتمع العراقي بشرياً وإقتصادياً وما يمكن أن يقدموه من إغراءات لقبول شراكتهم في الدولة الوطنية من كفاءات مدينية ومن عمق ومقبولية إقليمية توفر ثقلاً دولياً وازناً للدولة مقابل السعي لضمان استقلاليتهم الذاتية واستمراريتها وعدم اضطهادهم وتحميلهم أوزار خطاياهم السياسية مجدداً وتكون الصفقة قبول التوبة مقابل إعلانها! غير أن هذا يتطلب قبل كل شئ بلورة مراكز للقرار السني واتفاقها على الرؤية الستراتيجية للهوية السنية وإلا سيتكرر الفشل السياسي وستعود دوامة الإرهاب لتعبر عن انهيار الفراغ السني.
معلومات عن الكاتب
التعليقات
أضف تعليقك
يرجى ملء جميع الحقول*.